تحتل المؤسسة القضائية في المجتمع البدوي مركزا مرموقا في تاريخ البادية ويتمتع القاضي بمنزلة رفيعة بين عشيرته والعشائر الأخرى باعتباره عنصرا فعالا لا في عشيرته وحدها ولكن في المجتمع البدوي بأسره. فالقضاء بين البدو نظام متكامل الأركان يغطي النشاطات التي تشهدها الصحراء،ويرجع الفضل في تدفق الحياة في شرايين البادية إلى وجود هذا النظام المحكم في وقت لم يكن للدولة أي وجود في العصور الخالية. وثقة ابن البادية بالقضاء البدوي راسخة لا تتزعزع لأن أحكامهم تستند إلى أعراف العشيرة وتقاليدها والتي تكون في دورها
عمادا تستند إليه في حياتها فثقته بحكم القاضي نابعة من ثقته بالأعراف والتقاليد
البدوية الموروثة، وهذه القاعدة عامة تشمل القبائل البدوية والعشائر المقيمة في
القرى وحتى المدن الأردنية، إذ يلاحظ اتجاه السكان إلى الاستمرار في إتباع إجراءات
القضاء البدوي رغم أن قضايا أهل المدن والقرى تنظرها المحاكم النظامية إلا أنهم
معذلك لازالوا يعتمدون بعض إجراءات القضاء البدوي لاعتقادهم أنها الوسيلة المفضلة
لإنهاء المنازعات الهامة، فلا شيءيبدو أكثر عدالة من أن تحل المشکلات الخاصة تبعا
للأعراف التي يعتبرها طرفا النزاع قواعد لسلوكهم وشؤون حياتهم.
يستند قضاة
البدو في أحكامهم إلى العادات والأعراف البدوية التي أكدها الاستعمال الدائم ودعت
إليها حاجة مجتمعهم الحيوية حفاظا على تماسكه واستمراره رغم ما يتعرض له من عثرات
بين الحين والآخر سواء أكان مصدرها الطبيعة القاسية أو الإنسان المنحرف. وقد تبلورت
تلك العادات والأعراف القضائية فيما يسميه البدو( السوادي ) أو ( العواید )ومع
مرور الزمن وتعاقب الأجيال ازدادت القضايا التي تعرض على هؤلاء القضاة وقد اشتهر
بعضهم بحدة الذكاء وسعة المعرفة مما دعا الآخرين إلى اعتبار أحكام هذه الطبقة
مبادئ ترتكز إليها مؤسسة القضاء البدوي، ويطلق على هذه المبادئ ( المثيلات ) وهي
ما تسمى اليوم بالسوابق القضائية. وكثيرا ما يطلق البدو على قضاتهم لقب ( العارفين
) باعتبار أنهم حجج في معارفهم للتقاليد والأعراف والمثيلات المنتشرة في مجتمع
البادية. كما يسمونهم ( المخاطيط ) وقد اشتقوا هذه التسمية من كون هؤلاء القضاة
يخطون طريق الحق أمام المتخاصمين، ولكون كل من طرفي القضية يمسك عصا ويخط بها خطا
على الرمل، ويمثل هذا الخط القاضي الذي يختاره ويقول هذا ( خط فلان ) ذاكرة اسم
القاضي، لذلك فإن اصطلاح ( المخاطيط ) يطلق على القضاة الذين يخطهم الطرفان.
لقد عرف البدو
أنواعا كثيرة من القضاة خلال تاريخهم الطويل فهناك قضاة ينظرون القضايا البسيطة
التي لا يشترط لإصدار القرار بها توفر اختصاص معين لدى ذلك القاضي لأنها تتعلق
بأمور معروفة لدى عامة البدو، وفي الجانب الآخر يوجد قضاة الاختصاص حيث يختص
القاضي بالنظر في نوع معين من القضايا التي يحتاج البت بها إلى المعرفة والخبرة
التي لا تتوفر في القضاة العاديين. وهكذا فإن البدو قد عرفوا الاختصاص في القضايا
وميزوا بين القضايا التي لاتحتاج إلى قاض مختص وتلك التي تحتاج إليه، وفي هذا
المجال لا بد من بحث نشأة الاختصاص القضائي بين البدو، ثم التعرض إلى تصنيف القضاة
لدى العشائر البدوية التي لعبت دورا هاما في تاريخ البادية فأسهمت إلى حدود كبيرة
في إيجاد وتطوير السوادي البدوية أي التقاليد القضائية المنتشرة بين البدو.
قضاة القلطة
الفئة الأولى وتشمل ( قضاة القلطة ) : إن مجتمع البادية قد مر
خلال التاريخ بمراحل عديدة إذ أنه ليس بمعزل تام عما يدور حوله في المجتمعات
الأخرى فحين تعرض قضية غريبة عن القضايا المألوفة في هذا المجتمع على أحد القضاة
البدو فإنه يشعر بالحرج إذا ما تبين حقيقة أمرها، ومن هنا فإنه يدرك مدى خطورة
القرار الذي يصدر بها وتأثيره على مجتمع البادية، ولذلك يبادر هذا القاضي برد هذه
القضية إلى مراجعها فيخاطب طرف النزاع قائلا ( أنا لا أقلط عليها ولايستطيع أن
يقلط عليها إلا القاضي فلان لأنه من قضاة القلطة ) أي أن القاضي العادي هنا يرد
هذه القضية ويمتنع عن النظر بها وبنفس الوقت فإنه يرشح أحد قضاة القلطة للنظر بها.
ومن المعروف أن قاضي القلطة حين ينظر هذا النوع منالقضايا فإنه يضع مبدأ عاما يسير
عليه القضاة الآخرون ويصبح هذا المبدأ من سوادي البدو. ويعبر البدو عن ذلك بقولهم
أن قاضي القلطة ( إن هدم رسم ما حدا يبنيه وإن بنی رسم ما حدا يهدمه ) وأهم الطرق
التي تصل خلالها القضايا إلى قاضي القلطة ما يلي:
o قد يدرك طرفا النزاع
خطورة القضية فيذهبان مباشرة إلى قاضي القلطة
o يحيل القاضي العادي
القضايا الخطيرة التي تحتاج إلى وضع مبادئ جديدة إلى قاضي القلطة لإصدار المبادئ
التييراها
o قد يدرك قاضي القلطة
نفسه أو بعض أفراد عشيرته ضرورة إعادة النظر في سوادي البدو بين الحين والآخر وعلى
ضوء التغيير الاجتماعي الذي تمر به حياة البدو، ولذلك يصدر المبادئ الجديدة لتعديل
السوادي القديمة
قضاة الحاملة
(
قضاة الحاملة ) كما يسمونهم ( قضاة المحامل ) و ( قضاة المناهي ) : وهم
القضاة الذين يتحملون مسؤولية البت في الجرائم الخطيرة بإصدارهم الأحكام التي تضمن
إنهاءها طبقا لسوادي البدو. وتقسيم إلى ثلاثة أقسام :
§
منقع الدم ويسمى ( مقطع الدم ) كما يسمى ( قاضي
الرقاب ) وهو القاضي الذي ينظر في قضايا القتل وما يرافقها من جرائم الاعتداء على
الأشخاص وإذا واجه إشكال في تقدير التعويض كأن يكون كل من الطرفين قد اعتدى على
الآخر فإنه يحيل الطرفين إلى القصاص ) ليقوم بتقدير تعويض كل من الطرفين وبعد ذلك
يصدر قاضي الدم قرارة ( أو فرضا ) بلغة البدو يتضمن المبادئ الأساسية من أجل إنهاء
القضية.
§
قاضي العرض ويسمى ( قاضي المقلدات ) كما يسموى
أيضا ( العقبي : وينظر في قضايا العرض والاعتداء على حرمة المنازل ويسمي
القاضي هنا بالعقبي نسبة إلى عشيرة بني عقبة لأن قضاة العرض المشهورين قديما كانوا
من بني عقبة. ولقاضي العرض منزلة احترام خاصة إذ يخاطبه الطرفان على اعتبار أنه
والد النساء بقولهم ( وش بك يا أبوهن ) أي أبوقضايا النساء.
§
مبيض الوجوه ويسمونه ( المنشد ) وينظر في قضايا
تقطيع الوجه وتسويده ونظرا لخطورة جريمة تقطيع الوجه فإن مبيض الوجوه يحتل مركزا
مرموقا في القضاء البدوي والعقوبة التي يفرضها تعتبر ركيزة من ركائز الاستقرار في
البادية وبذلك فإنه يضع حدا أمام الآخرين يحول دون ارتكاب جريمة تقطيع الوجه.
قضاة العارفة
ويسمى ( العوارف ) أو ( المناهي ) أو ( قضاة الحقوق ) : وتشمل
القضاة الذين ينظرون في القضايا الأخرى التي لم ترد في اختصاص قضاة الفئتين الأولى
والثانية. ويشترط في قضاة هذه الفئة أن يكون لديهم معلومات وافية كل ضمن اختصاصه
وقد ينظر القاضي الواحد أكثر من نوع من القضايا فعلى سبيل المثال نجد أن قاضي
الأراضي غالبا ما يكون من أصحاب الأراضي الشاسعة ولذلك يسمونه ( قاضي الإقطاعات
)وكذلك يوجد قضاة (الرسان ) غالبا ما يكونون من عائلة مشهورة باقتناء الخيول
الأصيلة، ولذلك يسمون ( أرباب الخيول )وقد يجمع القاضي الواحد بين النظر في قضايا
الأراضي وقضايا الخيول وغيرها.
قضاة التمهيد
وتشمل ( قضاة التمهيد ) أو ( الاعتراض ) :
ويأتي دور هذه الفئة من القضاة في المرحلة التي تسبق اختيارالقضاة المختصين، ويمكن
تلخيص وظائف هذه الفئة بما يلي :
أن قاضي التمهيد هو الذي يحدد موضوع الخلاف بين
الطرفين إن كان هذا الموضوع مجال خلاف.
v
أن يحدد فئة القضاة المختصة للنظر في ذلك الخلاف.
v
أن يحدد الطرف الذي يدفع الرزقة علما بأنه قد
جرت العادة أن المتهم هو الذي يتحمل الرزقة في قضايا العرض بغض النظر عن النتيجة.
v
أن يحدد الأعراف القضائية واجبة التطبيق إن كان
ذلك موضوع خلاف كأن يكون كل طرف من عشيرة تختلفأعرافها عن الطرف الآخر، والقاعدة
العامة في هذه الحالة هي أن أعراف عشيرة المعتدى عليه ( الطرف الطارد ) هي التييجب
تطبيقها وليست أعراف الطرف المعتدي ( الطرف المطرود ).